الاثنين، 16 مارس 2015

جنوب السُّودان... تشابك من الأديان والأقوام

إله خالق واحد تعددت أسماؤه
على الصعيد الديني يصعب تحديد أرقام أو نسب دقيقة بشأن الانتماءات الدينية لسكان جنوب السودان؛ بفعل الأوضاع الاستثنائية للإقليم طوال العقود الماضية في ظل الحرب طويلة المدى التي سادت فيه؛ فعبر أكثر من نصف قرن من الزمان لم يجر في الجنوب سوى ثلاثة تعدادات سكانية تم إجراؤها في أوقات السلام النسبي: هما إحصاء عام 1956 عام الاستقلال، وعام 1983م ثم تعداد 2008م تمهيدا لإجراء استفتاء الجنوب وفي حين تم إدراج سؤال عن الديانة في إحصاء عام 1956 تم إهمال هذه السؤال في إحصائي 1983و2008. ووفق إحصاء 1956 قدر عدد مسلمي الجنوب بـ18% والمسيحيين هناك بـ 17% وغير الدينيين (الوثنيين والأرواحيين) بـ65%..
في حين تشير بعض التقديرات إلى اعتناق نحو 31 في المائة من الجنوبيين الدين الإسلامي وقرابة 48 في المائة من المسيحيين، والبقية تتوزع بين والأرواحيين واللادينيين، وأصحاب الديانات الإفريقية الأخرى، وذلك حسب إحصائية أجريت في عام 1986 من مجلس الكنائس العالمي. وفي المقابل، ووفق رؤية مصادر إسلامية أخرى، فإن نسبة المسلمين قفزت إلى 35% ويساويها اللا وحديون (وثنيون) 35%، ويليهم المسيحيون بنسبة 30%. الأمر الذي يشير إلى تعقد مسألة التعداد والوصول إلى العدد الحقيقي لأتباع الديانات المختلفة وهو أمر تتداخل في صنعه عوامل عديدة ليس أقلها ما يترتب على ذلك العدد من ثقل نسبي ومستحقات اقتصادية واجتماعية وسياسية في الدولة الجديدة.
وبصفة عامة، فإنه ما زالت هناك هيمنة لنمط المعتقدات الإفريقية التقليدية في الريف، حتى بين من اعتنقوا الديانات السماوية؛ حيث يعتقدون بوجود إله عظيم قادر خالق – يختلف اسمه من جماعة إثنية إلى أخرى إلا أنهم لا يجرؤون على مخاطبة ذلك الإله مباشرة لذا فإنهم يلجئون إلى البحث عن وسيط يحمل مطالبهم إلى ذلك الإله، ولهذا الوسيط تقام الهياكل وتقدم القرابين. وتعتقد معظم القبائل في جنوب السودان بأن الوسيط الروحي قادر على إنزال الأمطار وعلى إمساكها. ويرون أنه على اختلاف مسماه يستطيع أن يشفي المريض، وأن ينزل البلاء وله القدرة على أن يقتل من يريد بقوى سحرية. من هنا فهو مركز الاهتمام من كل الأفراد ومطاع الأوامر. ورغم قوة تأثير هذا الإرث العقائدي التقليدي الروحي، نجد أن الأجيال الجديدة، من شباب جنوب السودان، تتخلى- ربما بسبب التعليم الذي نالوه- عن بعض تلك الاعتقادات الروحية. لصالح التقاليد الإسلامية والمسيحية لاسيما في المناطق الحضرية في مدن الجنوب.
 المسيحية
يعتبر الوجود المسيحي في جنوب السودان وجودا حديثا إذ ارتبط وجوده وانتشاره بالوجود الاستعماري الذي كان بمثابة الحاضنة الأساسية التي رعت عملية الانتشار، كأداة أساسية للحد من انتشار المد الإسلامي في الجنوب الإفريقي بصفة عامة والسوداني بصفة خاصة وذلك عبر الإرساليات التبشيرية خلال القرن التاسع عشر التي عملت على نشر المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي بتفرعاتهما المختلفة، الأمر الذي أدى إلى نقل الخلافات المذهبية المسيحية إلى جنوب السودان. علاوة على تنافسها التقليدي على النفوذ مع الإسلام على حساب المعتقدات التقليديةّ.
 الإسلام
منذ الفتح الإسلامي للسودان في القرن السابع الميلادي، أخذ الإسلام واللغة العربية يشقان طريقهما جنوب الوادي على يد التجار والدعاة المسلمين. ويرى البعض أن الإسلام وصل وانتشر في جنوب السودان خلال فترة طويلة من الزمن بواسطة الجنود والموظفين في الإدارات الثلاث:المصرية التركية، المهدية، والمصرية الانجليزية، وبواسطة التجار الذين عاشوا هناك خلال الإدارات الثلاث. إلا أنه لم يسجل التاريخ قيام حكم إسلامي موحد في جنوب السودان كالذي قام في سنار والفاشر أو جبال النوبا.
ويعد إقليم بحر الغزال بولاياته المتعددة أكثر الأقاليم الثلاثة التي تضم مسلمين، تليها ولاية الاستوائية الوسطى، وتحديداً مدينة جوبا التي يقطن معظمها مسلمون، ثم يأتي إقليم أعالي النيل وخاصة في منطقة أبيي التي يسكنها أكثر من مليون مسلم منهم 600 ألف من قبيلة المسيرية وهي القبيلة العربية الوحيدة الموجودة في الجنوب.
 وفي الولايات الجنوبية العشر أكثر من 65 مسجداً جامعاً، أشهرها وأقدمها مسجد الملك فاروق في ملكال أعالي النيل، وهو المسجد الذي بناه الملك فاروق في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، ثم مسجد الصباح بمدينة جوبا، الذي أنشأه الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير الكويت أواخر ثمانينيات القرن الماضي أيضاً.
ينقسم مسلمو جنوب السودان إلي حركات صوفية وسلفية وأخرى حركية، ولكن الأكثر نشاطا بينهم هي التيارات الحركية الإسلامية التي لها صلات فكرية وتنظيمية مع المؤتمر الوطني الحاكم في كل السودان.
تطرح صورة الانقسامات سالفة البيان للجنوب السوداني تساؤلا كبيرا حول انعكاسات تلك الانقسامات على النظام السياسي والدولة الوليدة في الجنوب.
 مطالب الجماعات
بصفة عامة، يمكن القول أن مطالب جماعات جنوب السودان تتعلق أو بالأحرى ستتعلق بكافة قضايا وأبعاد النظام السياسي والمجتمع الذي يعمل فيه، بدءاً من هوية الدولة ووحدتها وصولاً إلى القرارات المتعلقة بالحياة اليومية لأفراد المجتمع، مروراً بالمؤسسات القائمة والسياسات المتبعة. وفيما يلي استقراء لبعض أهم تلك المطالب.
تعد تلك المطالب نتاج تفاعل مجموعة من العوامل والمؤثرات التاريخية والحضارية، وبصفة عامة يمكن التمييز بين هويتين أساسيتين لا تكاد تخلو منهما دولة من دول العالم المختلفة – وهما الو لاءات التحتية أو الهوية دون القُطرية، والولاء للدولة أو الهوية القُطرية. ولكل من الهويتين نخبها السياسية والثقافية المدافعة عنها والداعمة لها.
ففي هذه اللحظات تسود مشاعر الخوف بين الجماعات المختلفة؛ خشية من أن يؤدى التغيير إلى هيمنة جماعة بعينها على مقدرات البلاد، واستبعاد الجماعة الخاصة من اللعبة السياسية؛ ولذا تعمد كل جماعة إلى محاولة ضمان أكبر قدر من التمثيل داخل النظام؛ من خلال الضغط في سبيل إقرار النظام برموز الجماعة والاعتراف بها، أو منحها وضعا خاصاً في البلاد.
وعلى الرغم من أن كل النظم السياسية، أيا كانت طبيعتها تعانى من وجود صراع بين الجماعات حول المطالب الرمزية المتعلقة بالهوية، التي قد تبدو تافهة في بعض الأحيان، حيث لا تتعلق مباشرة بالموارد المادية قدر تعلقها بالقيمة المعنوية، فإن المشاهد أن النظم شديدة الانقسام تشهد حدة وكثافة في الصراع حول تلك المطالب على نحو يعكس أزمة عدم الاندماج وتعدد الولاءات داخل المجتمع.
وتتعدد المجالات والموضوعات الرمزية التي تكون موضوع صراع ومطالبة من جانب الجماعات حيث تتضمن من بين ما تتضمن المطالب المتعلقة بالألقاب، والنشيد الوطني، وعلم الدولة وشعاراتها، وأسماء المدن. على أن أكثر المجالات الرمزية تعلقاً بقضية الهوية هي تلك الخاصة باللغة والدين ووضع العادات والقيادات التقليديـة.
علي صعيد السياسات فإن حسن إدارة واقع التعددية القائم في جنوب السودان وما يفرزه من مطالب وتحديات يتطلب سعيها مراجعة السياسات الاستخراجية وسياسات التوزيع وإِعادة التوزيع، وسياسات التنظيم وإِعادة التنظيم، والسياسات الرمزية، حيث إن أياً من النظم لا ينبغي أن يعتمد في إدارته لواقع التعدد الاجتماعي على سياسة بعينها دون غيرها من السياسات، في ضوء علاقة التساند بين تلك السياسات وبعضها البعض، كما أنه لا يجب المبالغة في الاعتماد علي السياسات الرمزية لما قد تسفر عنه من ردود فعل سلبية حال انكشاف زيف تلك الرموز والسياسات الرمزية وعدم استنادها إلي رصيد من واقع وسياسات توزيعية عادلة داعمة.
*خلاصة من بحث محمد عاشور 'التعددية في جنوب السودان'، ضمن الكتاب 54 (يونيو 2011) 'الإسلام في دولة جنوب السودان' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق