الخميس، 27 أبريل 2017

“صورة ما قبل التصعيد”

منذ أن قرر شعب جنوب السودان مصيره، وأعلن دولته المستقلة، قبل نحو ستة أعوام، ظلت دولتا السودان وجنوب السودان تتهمان بعضهما بعضا، بدعم وإيواء المنشقين المسلحين المناهضين لكل دولة من الدولتين الجارتين، ولكن ظلت كل من الخرطوم وجوبا الرسميتين تنفيان هذا الادعاء وتبرر له بحجج عديدة تنسجها دبلوماسية كل بلد، وفي سياق تبادل الاتهامات بين البلدين اتهم جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني حكومة جنوب السودان بمواصلة دعم وإيواء حركات التمرد السودانية، وطالبها بالكف الفوري عن التدخل في الشأن السوداني.
وقال بيان لجهاز الأمن صدر أمس الأول (الاثنين)، تحصلت (اليوم التالي) على نسخة منه، إن سلفاكير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان وتعبان دينج نائبه الأول وعدد من قادة الأجهزة الأمنية، ظلوا في اجتماعات مع قيادات الحركة الشعبية – شمال، منذ الأربعاء الماضي وحتى السبت 22 مارس بمدينة (جوبا) عاصمة دولة جنوب السودان، مبينا أن ما رشح من معلومات يؤكد أن هنالك دفعاً منهم لإطالة أمد الحرب في السودان.
في الضفة المغايرة نفى ياسر سعيد عرمان الأمين العام للحركة الشعبية – شمال، عقدهم أي لقاءات في مدينة (جوبا) عاصمة دولة جنوب السودان، وقال إن رئيس الحركة الشعبية والأمين العام والجنرال عزت كوكو موجودون في (أديس أبابا) ولم نذهب إلى (جوبا) منذ العام الماضي، وكنا هناك بطلب من الخرطوم التي طلبت من جوبا التوسط.
العلاقة الجدلية بين دولتي السودان والجنوب هي الأخرى توترت كثيرا بعد الانفصال، نتيجة أسباب كثيرة وأفرز هذا التوتر عدم ثقة بينهما بسبب التركة (السياسية والعسكرية) بعد أن احتفظت دولة الجنوب بالود القديم مع رفاق الأمس الذين يتبعون للحركة الشعبية – قطاع الشمال في دولة السودان، إلى جانب توطيد علاقتها مع قطاع الشمال والحركات المسلحة الدارفورية والمساهمة في تأسيس الجبهة الثورية التي ضمت هذه الفصائل في جسم واحد، وتقديم عمليات الدعم والإيواء لتلك الحركات، الأمر الذي ظلت تتحدث عنه الخرطوم على الدوام.
ذهاب الجنوب إلى سبيله خلف هو الآخر تعقيدات أمنية تتصل بدولة السودان، أبرزها عدم فك الارتباط بين الجيش الشعبي لدولة الجنوب والفرقتين (التاسعة والعاشرة) اللتين أصبحتا (خميرة عكننة)، على الرغم من أن فك الارتباط بين هاتين الفرقتين والجيش الشعبي كان يفترض أن يتم ضمن الترتيبات الأمنية التي انسحبت بموجبها القوات المسلحة من الجنوب بموجب اتفاقية (نيفاشا)، ولكن ظل بقاء الفرقتين مرتبطا بالحركة الشعبية – قطاع الشمال.
ويمكن القول إن انفصال الجنوب خلف تركة (سياسية وعسكرية) ثقيلة الحمل على الدولتين، وأفرز الحركة الشعبية (قطاع الشمال) التي انفصلت سياسيا عن دولة الجنوب بسبب الانفصال، ولكنها لم تنفصل عسكريا لاعتبار أن الفرقتين (التاسعة والعاشرة) تتبعان للجيش الشعبي التابع لحكومة الجنوب وتضمان ما بين (40 – 54) ألف مقاتل، وهما من ضمن الفرق العشر المكونة للجيش الشعبي، وتتخذ الفرقتان من جبال ووديان ولايتي (جنوب كردفان والنيل الأزرق) مقراً لهما، وتشكل العناصر الجنوبية المكون الرئيس لجنود الفرقتين، إلى جانب أبناء الولايتين وغيرهم ممن ينتمون للجيش الشعبي.
دولة جنوب السودان انزلقت هي الأخرى بشكل غير متوقع في حرب أهلية اعتبرها متابعون الأشرس من نوعها في تاريخ الجنوب الطويل، ولم يمضِ عامان على تحقيق حلم شعب الأماتونج والشعب الاستوائي بمكوناته الاجتماعية المختلفة، حتى عم الخراب الديار التي خرجت لتوها من رهق الحروب المدمرة التي أضاعت ثمانية أجيال طوال تاريخ الدولة السودانية الحديثة.
ولكن فيما يبدو أن رحيل الأسطورة والقائد الملهم الدكتور جون قرنق ديمابيور رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان قبل نحو أحد عشر عاما تقريباً خلف تركة ثقيلة لنائبه وابن قبيلته الفريق سلفاكير ميارديت الذي يوصف بأنه حديث تجربة سياسية، لخلفيته العسكرية، وعقب رحيل قرنق برز الحديث همسا وقتها بين الأوساط السياسية وأخذ يطفو إلى السطح بأن هناك مجموعتين تتصارعان داخل الحركة الشعبية؛ الأولى تسمى بأولاد قرنق والثانية بأولاد سلفاكير، وكنتيجة حتمية لهذا الصراع الخفي بين المجموعتين ضاع مشروع السودان الجديد وطفا وصعد إلى السطح وأخذ ينمو رويدا رويدا التيار الانفصالي، الذي انتصر أخيرا بعد تحقيق المصير الجنوبي الذي تحقق بالانفصال قبل نحو ستة أعوام.
ويرى بعض المتابعين أن دولة الجنوب ظلت تعاني منذ تأسيسها من تعقيدات داخلية أبرزها طغيان القبلية على الأحزاب السياسية ويظهر هذا خلال الصراع الدائر حالياً بين (سلفاكير ومشار) والذي أدى بدوره الى انقسام مؤسسة الحركة الشعبية والجيش الشعبي من القاعدة إلى قمة الهرم، وظهر الصراع وكأنه سياسي، لكن الحقائق الماثلة تؤكد أنه صراع بين (الدينكا والنوير)، وخطورة الصراع تكمن في الانقسامات التي شهدتها مؤسسة الجيش الشعبي العسكرية والتي كانت انقسامات قبلية، الأمر الذي يعقد ويعمق من طبيعة الصراع، ويبدو من خلال الواقع أن التعقيدات الماثلة ربما يصعب التعامل معها وتصعب معالجتها في الوقت الراهن ما لم يقدم أحد أطراف الصراع تنازلات ويعي بخطورة الأمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق