الثلاثاء، 3 يناير 2017

الصين في جنوب السودان.. تسديد فواتير نادي الكبار

استوجب سعي الرئيس الصيني، شي جين بينغ، جعل بلاده قوة عسكرية عظمى محاسبة الذات، والبلاد تستقبل أول فوج للضحايا العسكريين منذ عقود .
ففي عيد ميلاده الـ22 أرسل العريف لي ليو رسالة محادثة جماعية  من معسكر الأمم المتحدة في جنوب السودان حيث اندلع إطلاق نار كثيف بين القوات الحكومية والمعارضة في جوبا هز المعسكر الذي تحرسه قوات حفظ السلام الصينية .
مرسلاً  أمنيته (أن تحفظ جميع رفاقي بأمان) على تطبيق المراسلة  المسينجر في 8 يوليو ومعها صورة لقبعة الأمم المتحدة الزرقاء ومروحيات تحلق في سماء المنطقة .
وكانت هذه آخر مرة تواصل فيها مع أصدقائه وأسرته في الوطن .
وبعد يومين قالت القوات الصينية وشهود عيان إن مدفعية جرنيت ضربت مركبة لي العسكرية توفي على إثرها بعد ساعتين ثم لحق به زميله الرقيب يانغ شيبينق في اليوم التالي .
وجاء مقتلهما بعد أسابيع من مقتل مهندس عسكري صيني في مالي، الأمر الذي تطلب من الصين محاسبة نفسها خاصة وأنها المرة الأولى التي تواجه فيها الحقائق الصادمة .
عادة ما يرجع الجنود الشباب في توابيت وهو أمر مفجع لكل أمة ترسل جيشها إلى بعثات خارجية إلا أن الأمر مختلف في الصين وذلك إن لم تستقبل جثث جنود منذ  حربها على الحدود مع فيتنام في العام 1979 وبعدها قررت البلاد الالتزام بسياسة عدم التدخل في شؤون الغير .
ويقول الدبلوماسي الصيني السابق وأحد قواد حفظ السلام بالأكاديمية الصينية للعلوم السياسية وانغ هونغاي، إن تأثير الحادث لم يكن مماثلاً لشيء رأيناه سابقاً في الصين . ضحايا جوبا أثاروا  مخاوف كبرى في الحكومة والجيش والمجتمع .
وعندما بث التلفزيون  الصيني صوراً للمشاة الصينيين وهم يناضلون من أجل إنقاذ زملائهم الجرحى تحت إطلاق النار صدم  العديد من المشاهدين في المنازل إذ أن القليل من الصينيين  يتفهمون المخاطر  هناك بما في ذلك عائلة العريف الراحل لي في فيوكسينق _إحدى القرى الزراعية بهضبة التبت .
وتتذكر والدته آخر حوار دار بينها وابنها قبيل رحيله إلى جوبا عندما سألته قائلة هل سيكون العمل خطيراً فأجابها قائلاً الصين قوية للغاية من يتجرأ أن يتنمر علينا نحن الصينيون مضيفاً بأن ذلك جعلنا نشعر بالاطمئنان.
ومما ضخم الحزن على لي أنه الطفل الوحيد للعائلة الذي ولد تحت سياسة الصين التي تجيز طفل واحد لكل أسرة وترعرع وحيداً دون أشقاء وتوفي والده بمرض السرطان عندما كان عمره 13 عاماً وبعد أربعة أعوام من رحيل والده تم تجنيده من قبل الجيش للمساعدة في دعم  والدته .
والأمر الذي يثير السخرية أن لي وزملاءه ربما لقوا مصرعهم بواسطة سلاح صيني الصنع كتلك الأسلحة التي باعتها الصين إلى البلدان النامية بما في ذلك جنوب السودان لسنوات بموجب سياستها الاقتصادية القائمة على التصدير .
وتحركت السلطات الصينية سريعاً لتشكل ردة فعل الجماهير ومارست طقوساً معقّدة لتكريم الضحايا وأمطرت وسائل الإعلام بالتصريحات والتي صورت موتهم ثمناً لوضع الصين الجديد كقوة عظمى.
وقالت إحدى التصريحات من أجل حماية السلام العالمي فإن الجنود الصينيين يتقدمون الجبهة الأمامية وسيكون عليهم مواجهة الدماء والحروب على نحو متصاعد وهذا يعكس دور الصين كقوة عظمى .
ولم تكن هناك تظاهرات شعبية ولا زال العديد من الصينيين يدعمون الجيش بقوة، وتراقب الحكومة النقاشات الشعبية للسياسة وبخاصة فيما يتعلق بالقضايا الأمنية والنقاد عادة ما يتعرضون للرقابة أو العقاب .
ولا زالت الصين ودول أخرى تعاني من الخلافات الداخلية حينما يتعلق الأمر بنشر قواتها خارج الحدود عبر وسائل التواصل الاجتماعي وداخل دوائر مطابخ القرار السياسي والمحادثات الخاصة .
وكتب الكولونيل المتقاعد "يو قانغ "على موقع "البوبو" قائلاً على القوات الصينية الانسحاب من دولة الجنوب لا يمكننا أن نتحمل هذه الخسائر في صمت .
في وقت طالب فيه العديد من المدونين على المدونة، القوات الصينية بالانسحاب قائلين إن الأمر لا يستحق أن تخسر من أجله الصين المزيد من الضحايا والجرحى .
وتقول مصادر مقربة من مطابخ صنع القرار إن هناك اختلافات داخل الحكومة حول كيفية إدارة نشر القوات بالخارج في وقت ترى فيه وزارة الخارجية التوسع في أنشطة حفظ السلام لإظهار القيادة العالمية بناءً على توجيهات الرئيس شي .
بينما يرى العديد من الجنرالات في الجيش ضرورة التمهل في نشر القوات بسبب محدودية خبرتها وتحوطاً لانتقادات داخلية وخارجية .
ونفى وزير الدفاع وجود انشقاقات داخل الحكومة حول نشر قوات حفظ السلام الصينية بمناطق النزاع .
ويترأس ملف القوات قائمة اهتمامات أجندة الرئيس شي السياسية ففي العام الماضي تعهّد ببناء قوة لحفظ السلام قوامها 8000 جندي إضافة إلى 2600 جندي منتشرين في العالم .
وتعد الصين ثاني أكبر ممول لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بعد الولايات المتحدة الأمريكية وأكبر ممول للقوات ضمن الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن .
وكشف مسؤول بالمنظمة الأممية عن ضغوط تمارسها الصين ليترأس أحد مسؤوليها مكتب حفظ السلام بالأمم المتحدة العام المقبل .
وفي عام 2017، تعتزم الصين استكمال أول موقع عسكري لها في الخارج ، بجيبوتي. وبحلول عام 2020، يهدف الرئيس شي لإعداد  الجيش الصيني لعمليات أخرى في الخارج .
وتعتبر حماية المصالح الصينية المنتشرة في العالم وحماية المواطنين الصينيين هناك أحد  أهم أهداف الرئيس شي .
ويقول دبلوماسي غربي انخرط في مفاوضات مع الصين في جنوب السودان "القادة الصينيون أصابهم الذهول من القتلى في جوبا لقد أدركوا سريعاً بأنه من المستحيل أن تكون عملاقاً تجارياً دون أن تصبح قوة إمبريالية بطريقة أو بأخرى .
إلا أن عمليات القتل لم تغيّر سياسة الحكومة وقالت بكين إنها ماضية في توسيع قواتها لحفظ السلام وقال مسؤول صيني رفيع بوزارة الدفاع بأن الصين ليست لديها خطة للانسحاب أو إضافة قوات جديدة بجنوب السودان .
ومع ذلك فإن القتلى فرضوا أسئلة ملحّة على الواجهة ويقول المبعوث الأمريكي الخاص للسودان وجنوب السودان السابق، برينكستون لايمن، عليهم أن يقرروا لأي مدى يريدون أن يكون لهم وجود فعلي في تلك الأوضاع غير المستقرة وما هي أهدافهم كقوة عالمية ؟
وعلى الرغم من أن الصين قدمت قوات الشرطة والمهندسين والأطباء كقوات حفظ سلام منذ العام 1990 إلا أنها لم تقدم قوات عسكرية إلا في ظل حكم الرئيس شي إذ تم نشرها في جنوب السودان ومالي .
كما أن الصين فقدت أرواحاً من قوات حفظ السلام هذه إذ توفي منهم 16 شخصاً منذ العام 1990 إلا أنه لم تسجل حالة وفاة واحدة لقوات من الجيش كما أن جميع الذين قضوا نحبهم كان بسبب المرض والحوادث والكوارث الطبيعية .
ولم تكن الصين تنوي أن تبني إمبراطورية نفطية في السودان عندما اشترت الحقول التي تخلت عنها الولايات المتحدة الأمريكية في السودان عقب اتهام الخرطوم بالإرهاب في تسعينيات القرن الماضي وأصبح الوضع أكثر تعقيداً عندما انفصلت الجنوب بدولة مستقلة في العام 2011 .
وحرص الرئيس شي في أولى سنوات حكمه على أن يبرهن بأنه قائد عسكري محنك، فأمر قواته بحماية مصالح الصين الخارجية والاستعداد لمواجهات عسكرية .
وفي يناير 2015 أرسلت بكين كتيبة مشاة قوامها 700 جندي للانضمام إلى بعثتها المكونة من المهندسين والمسعفين والناقلين والبالغ عددهم 300 شخص في جنوب السودان .
وكان هدفها من ذلك تجنب تكرار تجربة ليبيا والتي خسرت فيها الشركات الصينية معظم استثماراتها في الحرب الأهلية التي أجبرت بكين على  إجلاء أكثر من 35 ألفاً من مواطنيها في العام 2011 إضافة إلى إيمان القادة الصينيين  بحاجة الجيش إلى تجارب خارجية .
في وقت كثفت فيه وسائل الإعلام الحكومية تسليط الضوء على القوات لإبراز الانضباط والتدريب والمعدات الحديثة التي تتمتع بها .
وتتمركز الكتيبة الصينية في معسكر بجوبا يطلق عليه اسم مقر الأمم المتحدة وبه معسكران من الخيام يأويان  ما يزيد عن 37 ألف نازح داخلي.
والمعسكر وفقاً لما تحمل لافتته أُسس من قبل شركة النفط الصينية الوطنية وتتلخص مهمة القوات الأساسية في حماية منشآت المعسكر .
ووفقاً لأسرة لي فإنه بدا فخوراً بأنه جزء من مهمة تاريخية لبلاده إلا أنه أصبح أكثر تشاؤماً بعد أن قضى فترة في المعسكر وأصبح ذلك واضحاً في رسائله التي بعثها لأمه وأسرته .
وكتب رسالة لأمه قائلاً الحياة صعبة في المعسكر ونعاني نقص الماء واكتظاظ المعسكر وتدهور الأوضاع الأمنية .
وكتب أيضاً قائلاً عندما يضحي الجندي من أجل الوطن على جبهة مجهولة يكون قبره المكان الذي يقتل فيه وكفنه الزي العسكري الذي يرتديه .
وفي السابع من يوليو بدأ إطلاق النار في وسط جوبا بالقرب من معسكر الأمم المتحدة وتبادلت القوات الحكومية التي تدعمها الدبابات والمدافع الرشاشة والمروحيات الهجومية إطلاق النار مع المعارضة في الأدغال .
وفي العاشر من يوليو نشرت الحكومة الدبابات على بعد 400 متر من المقر الأممي وبدأت بإطلاق النار على المباني التي اتخذتها  قوات المعارضة ملجأً لها، الأمر الذي دفعهم للهرب تجاه المخيم الذي كانت تحرسه آنذاك مدرعة صينية بها ستة من الجنود الصينيين من بينهم لي .
تكريم حزين
وحينها بدأ الجنود بإرسال رسائل للأهل والأصدقاء ورصد أحد الصينيين في جوبا رسالة تقول "أختي نحن نتعرض للضرب هناك قنبلة قادمة نحونا "
وقالت تقارير الأمم المتحدة إن المدرعة استهدفت بقنبلة جرنيت انفجرت داخل المدرعة .
وأرسلت البعثة سيارة إسعاف للمصابين إلا أنه أُعلن عن رحيل العريف لي في الساعة 8:40 .
وقالت الأمم المتحدة إن الحادث لم يكن مقصوداً وحدث أثناء تبادل إطلاق النار، بينما أكد شهود عيان ومسؤولون في البعثة أن السيارة استهدفت من قبل الحكومة التي تعتقد بأن الأمم المتحدة تحمي المتمردين.
وتساءل البعض فيما إذا كانت القنبلة صُنعت في الصين في وقت طالبت فيه الحكومة الصينية بالتساؤل حول من استخدم الأسلحة وليس من صنعها؟
وعندما عاد العريف لي للصين غُطي تابوته وتوابيت رفقائه بالعلم الصيني وطاف بهم حرس الشرف الطرقات التي اصطف بها أكثر من 200 ألف نسمة وبث التلفزيون القومي نقلاً حياً لمراسم تشييع جثامينهم وسلم الجيش والدة لي ممتلكاته التي من بينها مذكرة كتب عليها "إذا رحلت يوماً ما فلا تحزنوا لقد كان هذا قراري وأنا لست نادماً عليه " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق