الاثنين، 4 يونيو 2018

دعهم يهلكوا.. مأزق الدور الدولي في جنوب السودان

ناقش مجلس الأمن الدولي في الأيام الفائتة مشروع قرار قدمته الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات فردية على مسؤولين في دولة جنوب السودان على خلفية اتهامهم بأدوار مختلفة في إذكاء نار الحرب الأهلية التي ضربت الدولة الوليدة منذ ديسمبر 2013، بعد عام ونصف فقط من انفصالها من السودان، وبغرض فرض ضغوط على جوبا لإنهاء الصراع الدموي الذي أدى لمصرع مئات الآلاف ونزوح ملايين المواطنين. غير أن الخطوة تطرح تساؤلات عن جدية هذه المقاربة المتواضعة، كما تكشف غياب المسؤولية الأخلاقية للمجتمع الدولي تجاه واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في العالم اليوم.
وحسب الأنباء فقد ناقش مجلس الأمن الجمعة الماضية في اجتماع غير رسمي مشروع القرار المقترح من الولايات المتحدة ووافق على فرض عقوبات فردية على كوانق كول شول محافظ مقاطعة بيتش التابع للحركة الشعبية المتمردة، وعلى كوال مايونق وزير الدفاع، ومالك روبن رينجو، نائب وزير الدفاع للشؤون اللوجستية في جيش جنوب السودان، ومارتن إيليا وزير شؤون مجلس الوزراء، و مايكل ماكوي لوث وزير الإعلام، وبول مالونق أوان رئيس أركان الجيش الشعبي لتحرير السودان سابقاً، الذي عزله كير في مايو 2017.
وكانت الإدارة الأمريكية أدرجت سابقاً كلاً من أوان ولويث ورينجو على القائمة السوداء بالفعل لدورهما في زعزعة استقرار جنوب السودان. ويعاقب مشروع القرار حاكم مقاطعة بيتش التابع للتمردين لإصداره أوامر بتقييد حركة العاملين في المجال الإنساني كما أنه كان مسؤولاً عن اعتقال اثنين من الطيارين (الكينيين) لتقديم المساعدات، وعرقلة أنشطتهم الإنسانية في فبراير الماضي.
وذكر مشروع القرار أن رئيس فريق التفاوض الحكومي لومورو "هدد صحفيين وعرقل المهام الإنسانية، وهدد بالقضاء على آلية مراقبة وقف إطلاق النار والأمن الانتقالي، كما أعاق "أنشطة بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان". وفيما يتعلق بوزير الدفاع، يقول مشروع القرار إن الجيش قام تحت قيادته بانتهاك وقف إطلاق النار في ديسمبر 2017 بمهاجمة المدنيين. ويشير القرار إلى أن وزير الدفاع في جنوب السودان زود المتمردين السودانيين في الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال السودان بمعدات عسكرية في انتهاك لاتفاق السلام لعام 2015.
وتعتقد دول الترويكا، بريطانيا والنرويج والولايات المتحدة التي تتولى قيادة الاهتمام والأجنجة الغربية بقضايا الحرب والسلام في السودان بجزئيه الشمالي والجنوبي منذ عقدين، أن الغرض من هذه الإجراءات العقابية الفردية ضد مسؤولين في جنوب السودان هو ما توجبه أهمية "وضع جوبا تحت ضغوط هائلة لجعلها تقدم التنازلات الضرورية لإنهاء الصراع الذي دام قرابة خمس سنوات".
ورداً على هذه الإجراءات قال المتحدث باسم وزارة الخارجية في حكومة جنوب السودان ما وين ماكول إن العقوبات ستؤثر على محادثات السلام لأنها تشجع جماعات المعارضة وتوقف محادثات السلام. وأضاف في تصريح "أن العقوبات ليست هي الحل، لذلك نطلب من مجلس الأمن إعادة النظر في العقوبات الفردية ومحاولة البناء لدعم عملية السلام".
ولعل أول ما يتبادر على ذهن المتابعين لملف هذه الحرب الأهلية الطاحنة وتبعاتها الإنسانية الباهظة، هو ما تقود إليه هذه الخطوة من طرح تساؤل حقيقي حول مدى الجدية التي تتوفر حقاً للولايات المتحدة، وبقية المجتمع الدولي، في مساعيها المعلنة عن العمل على إنهاء الحرب الأهلية الضروس في جنوب السودان، أما أن الأمر لا يعدو أن يكون من باب رفع العتب، أو إظهار الاهتمام الدولي بإنهاء المأساة الإنسانية التي يرزح تحتها شعب جنوب السودان، دون النفاذ إلى بذل جهود أكثر جدية وفعالية في جلب السلام، لا سيما وأن المجتمع الدولي هو من يتحمل قسطاً من المسؤولية عن تقسيم السودان كحل للصراع السياسي على السلطة والثروة بين نخبة الشمال والجنوب، وإعادة إنتاج الحرب الأهلية في البلدين المنقسمين.
ذلك أن هذه الإجراءات المتخذة بفرض عقوبات فردية على بعض المسؤولين الحكوميين السابقين، وآخرين لا يزالون في الخدمة، تكشف فضلاً عن تواضعها مقارنة بحجم نزيف الحرب المستمر منذ خمس سنوات، وكذلك عن عدم فعاليتها عند التنفيذ وعدم تحقيقها لأي ضغوط حقيقة تجبر الأطراف المتصارعة على إنهاء النزاع الدموي وتحقيق السلام، وتجنبها الاقتراب من اتخاذ أية إجراءات فعّالة ضد كبار القادة السياسيين الذين توقد صراعاتهم على السلطة هذه الحرب الضروس، واللجوء إلى هذه الإجراءات المتواضعة تكشف أما عن عجز المجتمع الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة على القيام بأي دور أو ضغوط حقيقية قادرة على تغيير موازين القوة الراهنة بين الأطراف المتصارعة، أو تفصح عن جهل كبير بديناميات الصراع وأسبابه العميقة التي تتجاوز الأشخاص إلى تعقيدات التركيبة الاجتماعية القبلية الممتدة عبر حقب من الصراعات التاريخية.
ومع ذلك يبقى أيضاً وارداً احتمال رهان المجتمع الدولي بمثل هذه الإجراءات المحدودة الأثر والضيقة الأفق على جعل الصراع دائراً على أشده حتى تنهك الأطراف جميعها، أو يبرز من بينها منتصر يفرض إراداته على الآخرين، وهو سيناريو لا أخلاقي، ولكن الوقائع لا تكذبه في ظل عجز المجتمع الدولي المستمر عن التدخل لصالح الحفاظ على الأمن والاستقرار في الدولة التي ولدت تحت رعاية ضغوط دولية كثيفة على الخرطوم قادتها للقبول بخيار تقسيم السودان كحل للصراع المرير بين الشمال والجنوب في حرب أهلية استمرت خمسة عقود.
صحيح أن جذور هذا الصراع محلية بالأساس، فاقم من تأثيراتها أنانية النخبة الجنوبية على امتداد طيفها القبلي، إلا أن الصحيح كذلك أن تعاطي المجتمع الدولي بهذه الطريقة المائعة تجنباً لتدخل جدي أكثر فعالية مطلوب أكثر من أي وقت مضى هو ما يجعله يتحمل المسؤولية الأخلاقية في إطالة هذه الحرب المنسية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق