الخميس، 28 يونيو 2018

(سلام أفريقيا)

بعد عشرين عاماً من المواجهة يهبط وزير الخارجية الأريتري في مطار بولي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا ويجد في انتظاره رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد محملاً بالورود والأزهار. وكأن الرئيس يمسح من التاريخ عشرين عاماً من الصراع
ويبدلها بمستقبل يحيطه التعاون بين البلدين اللذين يقول التاريخ إنهما كانا في الأساس وطنا واحدا. الورود التي نثرها الرئيس الإثيوبي على ضيوفه بدت وكأنها تنبت في الخرطوم التي تستضيف قمة تطبيب الجراح بين الرئيس الجنوب سوداني سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار لإيقاف نزيف الدماء المنهمر منذ خمس سنوات. ومثل الذي يلتقط القفاز بلون سلامه الأخضر يعلن رئيس الجمهورية المشير البشير عن فتح الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان، هي نفسها الحدود التي تنبت على جانبيها أشجار النزاع وفي أفضل أحوالها الاختلاف حول ترسيمها كما يحدث في منطقة سماحة وغيرها من المناطق الواقعة بين الدولة الأم والدولة المنفصلة عنها قبل سنوات سبع.
ما يجري الآن يطرح السؤال المتعلق بمستقبل المنطقة بشكل عام ولأي مدى يمكن للشرق الأفريقي أن يتجاوز سنوات الاحتراب لصالح سنوات التعايش وفقاً لمنهج المصالح المتبادلة، السؤال لا ينفصل عن استفهام آخر حول: ما الذي جنته الشعوب من تطاول امد نزاعاتها؟ كان الرئيس الجنوب سوداني سلفاكير ميارديت يطلق الجزء حين يريد الكل يقول في الخرطوم بأنه يحس بمدى الآلام التي تقع على كاهل الجنوبيين بفعل استمرار حرب الرئيس ونائبه المتمرد عليه معاناة جنوبيي الجنوب لا تنفصل عن معاناة أكبر كتلة سكانية بينه والشمال في الحدود والآثار الاقتصادية الكارثية لتمدد ظاهرة الحرب التي عطلت مصالح الناس، هو ذاته المشهد الذي يمكن أن تلمحه حين تقف بين إثيوبيا وأريتريا وتعايش كل مظاهر اللاحياة حيث لم تجن سوي الخراب والدمار.
هل من ثمة توجهات جديدة في المنطقة؟ وما الذي يقف وراءها؟ بالنسبة للكثيرين فإن تبلور حقبة سياسية جديدة في إثيوبيا يبدو ماثلاً للعيان، حقبة بدت وكأن زعيمها الشاب يمضي حاملاً ممحاته لكل إرث الماضي المرتبط بالصراعات وساعياً بكل ما أوتي من قوة من أجل إعادة ترسيم الواقع بما يحقق المصالح المشتركة، وهو أمر بدا بارزاً حين هبوطه في السودان وتوجهه إلى مصر قبل أن ينجح في جلب فرقاء الجنوب إلى عاصمة الاتحاد الأفريقي برعاية من الإيقاد. هذا التوجه قد لا يعجب البعض وهو ما أكدت عليه ما أسمتها الحكومة الإثيوبية محاولة اغتيال استهدفت التحولات الإيجابية نحو السلام قبل استهدافها لشخص الرئيس الإثيوبي.
بالنسبة لعدد من المراقبين للمشهد الأفريقي فإن التحولات الإثيوبية الحالية تجد دعما منقطع النظير من المجتمع الدولي ومن الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد باعتبار أن تحقيق السلام هو رغبة دولية من شأنها أن تساهم في حلحلة عدد من القضاياء الدولية المعقدة. لا يمكن فصل الدعم الغربي للحراك نحو السلام في المنطقة من حديث البعض حول أدوار إيجابية لعبتها بعض دول الخليج في تقريب وجهات النظر الإثيوبية الأريترية لاعتبارات تحالفية، فيما يمضي كثيرون نحو نقطة أخرى تتعلق بالرغبة الإثيوبية في تجفيف كل بؤر النزاع في طريقها نحو المستقبل.
ترى الحكومة السودانية في دورها المتعلق بإيقاف الحرب في جنوب السودان مسؤولية أخلاقية وواجبا تفترضه أسس التاريخ المشترك. المفارقة أن الموقف الأخلاقي هو المبرر الذي دفع به الرئيس اليوغندي موسفيني في دفعه لمبادرة السلام بين سلفا ومشار، وليس وحده المنطلق الأخلاقي وحده هو المحرك السوداني في اتجاهه جنوباً وسعيه من أجل تحقيق السلام، فعوامل لمثل تحقيق الأهداف الاقتصادية والحفاظ على الأمن القومي السوداني يبدو على درجة كبيرة من التأثير في التحركات السودانية كما أن معادلة الارتباط بين استقرار جوبا والخرطوم تؤثر على الخطوات السودانية دون إهمال الأثر الإيجابي للحراك الاقتصادي بين الدولتين في سبيل فك الاختناق عن الخرطوم التي تعيش أوضاعاً اقتصادية بالغة السوء فقرار مثل قرار انسياب النفط الجنوبي في اتجاه الشمال من شأنه أن يقلل من الضغوط الهائلة على الحكومة السودانية اقتصادياً، وقد يكون أكثر العوامل تأثيراً في السعي الجاد من أجل تحقيق السلام في جوبا دون إهمال عامل أساسي يتعلق بالرغبة الدولية في تحقيق سلام بالجنوب مما دفع بالولايات المتحدة الأمريكية لأن تربط بين إيجابية الدور السوداني في هذه العملية ومغادرة البلاد لقائمة الدول الراعية للإرهاب.
متوافقاً مع كل هذا، فإن عاملا آخر يبدو هو الأصل في كل الحراك المحموم من أجل تصفية النزاعات يتعلق هذه المرة برغبة الشعوب نفسها في ممارسة حياتها وتبادل المنافع بذات الاعتيادية دون أن تسقط في بئر الخلافات السياسية للأنظمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق