الأربعاء، 10 أغسطس 2016

إثيوبيا تكشف النقاب عن سد النهضة

ما أن أعلن سيمغنيو بيكيلي، وهو يبتسم مبدياً استغرابه في الوقت نفسه، لوفد صحافي "من قال لكم ذلك، إذهبوا فأنتم أحرار في تصوير ما ترونه هنا"، حتى ألجمت المفاجأة السعيدة الجميع وتهلّلت الأسارير حتى أذهبت رهق الرحلة المضنية
إلى أقاصي الغرب الإثيوبي. أما بيكيلي الذي نقل للوفد المنهك هذه السانحة لسبق صحافي نادر، عن مشروع طالما أحاط به الكثير من الغموض وسط جدل محموم لم يستطع أحد التفريق فيه بين الحقائق والأساطير، فلم يكن سوى المهندس الإثيوبي المقيم ومدير مشروع "سد النهضة الإثيوبي العظيم"، وهو الاسم الرسمي الكامل للسد، الذي سيغيّر معادلات الاقتصاد السياسي في دول حوض النيل الشرقي، السودان ومصر وإثيوبيا.
ما جعل الأمر يكتسي إثارة أكثر أن 28 صحافية وصحافياً، يمثلون مؤسسات إعلامية من السودان ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان، ظلوا أسرى لتحذيرات متكرّرة من المشرفين على ورشة العمل التي دعا لها "معهد استوكهولم للدولي للمياه" بأن أي نوع من التصوير لن يكون مسموحاً به عند زيارة موقع السد، والتي كان حدوثها خاضعاً لتقديرات أخرى ليس أقلها رداءة الطقس، وازدادت درجة الحذر أكثر عندما أُبلغ جميع أعضاء الوفد الصحافي ونحن على بعد ستين كيلومتراً من بلوغ موقع السد بأن التصوير ممنوع بتاتاً وعلينا ألا نظهر آلالات التصوير أو حتى الهواتف النقالة، وكان ذلك أمراً باعثاً على الإحباط خاصة بعد جلسات عمل مُرهقة للغاية ليومين ناقشت ست أوراق عمل قدّمها خبراء من معهد استكهولم، وجامعة اكسفورد، وجامعة دندي الاسكوتلندية، ومبادرة حوض النيل، والمكتب الإقليمي الفني لحوض النيل الشرقي.
على أية حال بعد رحلة بالطائرة استغرقت ساعة من أديس أبابا إلى أصوصا عاصمة إقليم بني شنقول والقُمز، غربي إثيوبيا والمتاخمة للحدود السودانية، ثم رحلة بالسيارات استغرقت زهاء خمس ساعات لمسافة لا تبعد أكثر من مائتي كيلومتر بسب وعورة الطريق الذي بدّدته طبيعة خضراء خلاّبة، وصلت القافلة الصحافية إلى منطقة قوبا، ثم ما لبث أن ظهرت الإنشاءات والآليات الضخمة التي تعمل في تشييد سد النهضة، والملاحظة الأولى التي تعاجل الناظر لهذا المشهد تبدو وكأن الطبيعة الطبوغرافية المنحوتة للمنطقة هي التي أملت قيام سد في هذا المكان تحديداً، حيث تحيط سلسلة من الجبال المتراوحة الارتفاع بالسهل الذي يخترقه نهر أباي من منبعه في بحيرة تانا، قبل أن يدلف إلى حدود السودان بعد نحو 25 كيلومتراً ليأخذ اسم النيل الأزرق.
بدا المشهد مهيباً، حيث وقف جسم السد يشارف الاكتمال بين حافتي جبلين، وفي المنتصف تماماً تتدفق مياه النهر بقوة لتعبر إلى الطرف الآخر، فيما تتوزع آليات ضخمة على جانبي الطريق، وعبرت القافلة جسراً لتنتقل إلى الضفة الأخرى حيث المعسكر الرئيسي لإدارة السد، استقبل الوفد رجل في منتصف العمر، دقيق الجسم، واثق من نفسه، لا تكاد تفارقه الابتسامة، رحّب بالجميع في قاعة اجتماعات كبرى، معرّفاً نفسه بالمهندس سيبغنيو، المتخصّص في إنشاء السدود، ثم قدَّم ممثلي شركات ساليني الإيطالية المنفذة للمشروع وشركاء آخرين.
ما أن أبلغ المهندس بيكيلي الصحافيين بأن بوسعهم تصوير ما يشاؤون مما يقع في أعينهم من منشآت في الموقع حتى تسابق الجميع، الذين أخذوا على حين غرة بهذه المفاجأة التي لم تكن متوقعة على الإطلاق، لاستخراج أجهزة التسجيل وآلالات التصوير، وبدا التنافس واضحاً لا سيما من الزملاء المصريين، الذين كان وقع هذا النبأ العظيم عليهم عظيماً إلى درجة لا تكاد تبلغ التصديق، فهذا أول وفد مصري على الإطلاق يزور موقع سد النهضة مع كل الخلفية المعلومة بهذا الخصوص من سجال بين البلدين، وتلك في حد ذاتها كانت حدثاً، أما أن يُسمح لهم بالتصوير بلا قيود ولا شروط، فكان ذلك خارج توقعاتنا جميعاً.
ولندع مدير مشروع سد النهضة المهندس سميغنيو بيكيلي يقدّم لنا في قاعة الاجتماعات شرحاً كاملاً للمشروع، قبيل أن يستكمله لاحقاً مرافقاً الوفد إلى كل أجزاء السد متنقلين بين خمسة مواقع. ويبدأ بوصف المشروع بأنه للتوليد المائي للكهرباء، ويبلغ طول جسم السد 1870 متراً، وارتفاعه 145 متراً، وبه محطتان للتوليد مزودة بـ 16 وحدات توليد، بسعة 500 ( ك. في)، وتقدر طاقة إنتاج الكهرباء الكلية بستة آلاف ميجاوات. تبلغ مساحة بحيرة السد 1874 كيلومتراً مربعاً، بارتفاع 640 متراً فوق سطح البحر عند اكتمال سعة تخزينها البالغة 74 مليار متر مكعب من ماء النهر.
ويشار إلى أن إثيوبيا أنشأت عدداً من السدود خلال الفترة الماضية من بينها، سد (جلجل جيبي 1)، (سد تيكيزي)، (جلجل جيبي 2)، (جيبي 3). وتقول إثيوبيا إن توسّع استثمارها في مجال السدود للتوليد الكهربائي المائي يهدف لأن تصبح محوراً لإنتاج الكهرباء النظيفة في المنطقة.
عند اكتمال تشييد سد النهضة سيكون الأكبر من نوعه في إفريقيا، وسيحتل موقعه بين أكبر عشرة سدود في العالم حيث سيحتل المرتبة الثامنة، حيث يقع أكبر سد في الصين "جورجز الثلاثية" في الصين بطاقة 22.500 ميجاوات، سد ايتابيو بين البرازيل وبراغوي "14 ألف ميجاوات"، سد غوري في فنزويلا بطاقة عشرة آلاف ميجاوات، تكوروي في البرازيل بطاقة ثمانية آلاف ونصف ميجاوات، سد كولي العظيم في الولايات المتحدة بطاقة 6494 ميجاوات، سد سيانو سوشنسكايا في روسيا بطاقة 6400 ميجاوات، كراسويارسك في روسيا (ستة آلاف ميجاوات)، ثم سد النهضة ستة آلاف ميجاوات.
ويشارك في تنفيذ مشروع سد النهضة إلى جانب المؤسسات والخبراء الإثيوبيين، شركات استشارية ومقاولة معروفة دولياً على رأسها "ساليني" الإيطالية التي شيّدت نحو مائتي سد في أنحاء مختلفة من العالم، ويبلغ عدد الخبراء الأجانب في المشروع ثلائمائة خبير من 35 دولة، إضافة إلى أحد عشر ألفاً من العاملين الإثيوبيين.
وشدّد المهندس بيكيلي في شرحه لخطوات التنفيذ حرص حكومة بلاده على إجراء التحقيقات الكاملة لاختبار تصاميم السد، ومواد التشييد، وعمليات التنفيذ، وفق إجراءات بمواصفات ومقاييس دولية، وتنفيذ توصياتها بكل "شفافية، ومسؤولية، ومهنية".
وعند مرافقته للوفد الصحافي في زيارات ميدانية لخمسة مواقع في منطقة تشييد السد، استمع المهندس سيمغنيو بصبر تام للأسئلة "اللحوحة أحياناً" حول مسائل دقيقة ومتشعّبة، لا سيما تلك التي تخاطب هموم الرأي العام المصري، مع الأخذ في الاعتبار المدى الذي وصلت إليه الشكوك حول السد، واجتهد المسؤول الإثيوبي في توضيح الجوانب المختلفة من وجهة نظر فنية بحتة.
غير أن السؤال الكبير الذي طرحه العديد من الصحافيين للمهندس بيكيلي حول موعد الانتهاء من التشييد والبدء في تشغيل السد، لا سيما الشروع في ملء بحيرة الخزان، لم يجد إجابة، المسؤول الإثيوبي اكتفى بالقول أن كل الجهود الحثيثة التي يبذلها هو وزملاؤه تهدف إلى الوصول إلى تحقيق إكمال مرحلة التشييد والشروع في التشغيل، وسيكون مستعداً لتقديم إجابة عند زيارة الوفد في المرة القادمة على حد تعبيره. واعتبره أن ما رآه الصحافيون مما يجري على الواقع الذي شهدوه بأنفسهم يعطي فكرة عن حجم العمل ومدى التقدّم الذي وصل إليه.
واتفقت معظم التقديرات من خلال محادثات جانبية مع خبراء مختصّين غير إثيوبيين أن نسبة التقدّم في تشييد سد النهضة تتراوح بين الـ 60% والـ 70%، كما توقعوا أن يتم البدء في مرحلة ملء البحيرة بحلول موسم الفيضان القادم، الذي يبدأ بعيد منتصف العام المقبل.
وبعد هذه لمحات سريعة عن بعض الجوانب الفنية في عملية تشييد السد، حسب بعض المعلومات التي أدلى بها مدير المشروع، وسنواصل في مقال قادم عرض صورة أوسع وأشمل عن الآثار والتطوّرات المترتبة على إقامة السد التي تتعدّى بكثير المسائل الفنية، حيث سنتناول المعادلات الاقتصادية السياسية لسد النهضة بالنسبة للدول الثلاث منفردة، ولدول إقليم الحوض الشرقي لنهر النيل، وتأثيره القاري والدولي.
كما سنتعرّض بشيء من التفصيل للأوراق والنقاشات التي جرت في ورشة العمل التي دعا لها معهد استكهولم الدولي للمياه، وكانت سبباً في أن ترفع الحكومة الإثيوبية لأول مرة الحجاب عن آخر التطوّرات في تشييد سد النهضة، وأن يكون أول وفد صحافي مصري شاهداً على هذه التطوّرات من أرض الواقع. ويبقى السؤال الكبير الأكثر أهمية، لماذا قرّرت إثيوبيا في هذا التوقيت بالذات رفع الحجب وكشف النقاب بالكامل عن مجريات الأمور في تشييد السد أمام صحافة السودان ومصر؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق