الأحد، 21 أغسطس 2016

مشار ورقصة الموت

في العام 1991م، عن د.رياك مشار عقب انسلاخه الشهير عن الحركة الشعبية في أول تمرد له عليها : « إن التاريخ سيظل يذكر رياك مشار بالشخص الذي طعن الحركة الشعبية في ظهرها حينما كنا على وشك الانتصار ..» ..! >  لم يكن جون قرنق ليتخيل لو عاش أو بعثه الله ليرى، أن رياك مشار سيذكره التاريخ أيضاً بأنه أكثر قائد من جنوب السودان، راوغ الموت وفر منه وصار عصيا ًعليه، فلا يكاد يفلت من مخالب منيته، إلا ليكون فريسة مطاردة لمرة أخرى، تقترب منه المنايا فيهرب تسن نصالها لتحز عنقه فينجو، ولا يكاد ذباب سيف الموت يلامس جسده حتى تجده في لمح البصر بعيداً هناك في لحظة الانقضاض ..!كأن هذا الرجل خُلق ليباري أشباح الموت التي تحوم حوله فلا تتصيده. فمن غاب يهرب إلى دغل، من دغل يقفز إلى آكام وآجام ..كأنه في جفن الردى وهو نائم..! >  بالأمس القريب استطاع رياك مشار أن ينجو من مطارديه وهم قوات غريمه الرئيس سلفا كير الذي كان يريده حيا ًأو ميتاً، فسلفا كير لن يرتاح وتهمد ثائرته إلا إذا رأى بأم عينيه رياك مشار أمامه جثة هامدة يتحسسها ثم يطمئن. > يهرب مشار من جوبا كما هرب ليلة الانقلاب المزعوم في سبتمبر 2013م، في هذه المرة الثانية من قصة هروبه في يوليو الماضي، كانت غربان الموت ترفرف بأجنحتها فوق رأسه داخل القصر الرئاسي بجوبا، والرصاص ينهمر حوله كمطر استوائي مخبول، وبجانبه خصمه الذي يتمنى موته وهو لا يستطيع فعل ذلك في تلك اللحظة. ومن الغرائب كان سلفا كير في تلك الساعة أحرص على رياك، فأنقذه بسيارات مصفحة من القصر الرئاسي، ثم تحسَّر على فوات الفرصة فلاحقه بعد هنيهات وقصف مواقعه بالطائرات العمودية وحاصر قوات نائبه الأول في مقرها بجوبا، لكن (ثعلب الغابات) فرَّ من العاصمة المكلومة كما فعل في المرة السابقة ولم يغطه الموت ببردته الواسعة .. > هذه المرة .. كان في الاتجاه المعاكس، موَّه كثيراً وعبر بحر الجبل إلى غرب الاستوائية، قاتل مع رهط من رجاله، تعرَّض لكمائن داخل الغابات الكثيفة وسار مئات الأميال علي قدميه وسط أحراش موحشة وقاسية، عانده كل شيء.. المطر العنيف المتساقط عليه وقذائف الطائرات التي كانت تلاحقه وتدمر كل شيء كان معه السيارات والعتاد ورصاص نباح القوات التي تطارده مذ خروجه تقضم أطراف مرافقيه، حتى صار بلا ركائب أو عربات، ابتلعته الغابات بغرب الاستوائية وهي كما يقال(الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود) ..! > ولد من رحم الغاب مرة أخرى، ليجد نفسه بعد أيام مريرة طويلة من التيه والجوع والمرض والإصابة في كاحل القدم، مولود داخل غابة أخرى في الكونغو الديمقراطية في جزء يعج بالمجموعات المسلحة والعصابات والمطارَدين مثله .. حتى التقطته أيادٍ إقلمية ودولية وهو بين براثن الموت ..سهام أعدائه التي تترصده، والجوع الذي نهش معدته وأمعاءه وأحشاءه، والموت الذي داهم كل خلايا جسده، فطعامه كان من ثمرات الأشجار الغابية أو الحيوانات الهائمة حيث أبقى القليل من الرصاصات في بنادق جنوده بعد نقص ذخيرته بغرض أصطياد ما يأكلونه، تعددت أسباب الموت أمام ناظريه ورأى حراب المنية حوله تتلمَّظ ..! > قصة هذا الرجل ..محيرة حقاً ..!ليس لأن النبواءت الوثنية لقومه وقديسهم المزعوم تتعضد كل مرة كأنه مدخر ليوم تحققها، لكن ربما سار في ذات الطريق الذي مشى فيه قبله زعماء المعارضات المسلحة في العالم، بول بوت زعيم الخمير الحمر في كمبوديا الذي ذاق طعم السلطة ثم تركها، طورد عبر الفلوات والغابات طويلاً ثم اعتقل ووجد مقتولاً 1998م في كوخ وسط دغل كثيف وحوله جماجم مجهولة ..! > وجونثان سافيمبي زعيم حركة يونيتا في أنجولا، قاتل طويلاً وهرب كثيراً ، لكن مصرعه كان في حضن أدغال أنجولا الشرقية عام 2002م وتركت جثته تنتفخ تحت كوخ قصبي نبتت حوله حشائش سامة وتسلق جثته النمل الأسود، وتشي جيفارا الذي يعتبره اليساريون أيقونة النضال الأممي كان مصيره هو ذات المصير في غابات بوليفيا بالقارة الإيبيرية حيث ولد وترعرع  وانطلق مناضلاً .. >  كل المُطاردين من أجل السلطة أو المُطالبين للسلطة والهاربين من لظاها، أكلتهم نيرانها وشواظها، فما بال رياك مشار يهرب من الموت وإليه ..؟  إذا جاء من يمين لجأ إلى شماله ومن أمامه تراجع إلى الخلف ومن فوقه غاص في الأرض ومن الأرض طار في الفضاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق