الأربعاء، 24 أغسطس 2016

حلايب.. "جنوب السلك"

الطريق إلى حلايب
في الطريق المسفلت السواد سيد كل شيء.. درجات الحرارة تشوي الوجوه خارج السيارة لكنها لا تمنع ابتسامتهم؛ كيف لهم أن يبتسموا وكيف يعيشون؟ من أين يجلبون هذه القدرة على الإبتسام وكيف ترتفع الأيادي بالسلام وهي المنهكة بحمل مياه الشرب أو الغوص عميقاً في البحر من أجل اصطياد بعض الأسماك؟ عبرنا في محمد قول لنجد لافتة على يمين الشارع مكتوب عليها (مرحباً بكم في محلية حلايب).. نعبر اللافتة لنقف في محطة (أوسيف)، حاضرة المحلية.. المحلية اسمها حلايب، ولكنها الآن تقف مؤقتاً في أوسيف.. المدينة التي تجاهد من أجل أن تكون (قرية).. هنا يمكنك أن تجد رئاسة المحلية وموردا للمياه.. لا تسأل عن الكهرباء، فهي ترف لا يحتاجه الناس هناك. في المدينة أيضاً نقطة (جمركية) تستقبل الصادر والوارد وأناس يضعون كتوفهم من أجل تلقيط رزقهم الحلال في السوق أو في المناطق حوله اللواري من نوع (السفنجة).. تتراص هناك بشكل منتظم؛ بعضها يتجه نحو الشمال، وكثيرها يمضي في الاتجاه جنوباً وهي محملة بالبضائع.
مؤقتة لبضعة وعشرين عاماً
في داخل محلية حلايب في قلب مدينة أوسيف وحده اللون الأصفر للطلاء يخبرك أنك داخل مبنى حكومي المختلف هذه المرة هو أن المبنى هو مبنى رئاسة المحلية لا شيء يخبرك بذلك سوى اللافتات المرفوعة في كل المحليات لكنها هناك تغيب ليست وحدها فحتى الراية التي ترفرف في مدخل المبنى تغيب عن أوسيف يخبرني أحدهم بأن غياب الراية يتعلق بأن (الهواء شديد).. الرجل يقصد ساعتها الرياح التي تهب على المدينة من حين لآخر ولا يمضي دون أن يشير لأمر آخر يقول إن الحكومة لا توفر لهم ميزانية للأعلام التي تحتاج للتغيير كل أسبوع. في مكتب يبدو كأنه يتواءم مع الحال الماثل يجلس محمد الطاهر هييس معتمد المحلية الذي يقول إن وجودهم في هذا المكتب وفي مدينة أوسيف أمر استدعته الظروف الاستثنايئة منذ العام 1994 حين تم احتلال جزء من المثلث هييس يقول إنه يدير الآن ما تبقى من المحلية حين يكشف بأنه يحكم ثلثيها، بينما الثلث الثالث يقع تحت سيطرة القوات المصرية الغازية. يقول إنه يبذل مافي وسعه لتوفير الخدمات للمواطنين في هذه النقطة ويردف بأن هذا الوضع المؤقت سينتهي طال الزمن أو قصر.
تمييز تنموي إيجابي ولكن!
يقول علي أحمد حامد والي البحر الأحمر الذي وصل إلى السلك الشائك، والموضوع داخل الحدود السودانية إن المعالجة ووضع النهايات هي من اختصاص الحكومة المركزية وتحديدا وزارة الخارجية. يقول إنه ذهب إلى هناك بغية إرسال رسالة مفادها أن هذه الأرض لنا وستظل لنا وأن الغرض من زيارته كان تعظيم الإحساس بمسؤوليتهم تجاه هذه الأرض المغتصبة. وليس هذا فحسب فخطة الولاية بحسب حامد تقوم على أساس التمييز الإيجابي في تقديم الخدمات لمواطني حلايب، لكن ثمة مفارقة تبدو واضحة للعيان فيما يتعلق بالخدمات شمال السلك الشائك، أو في تلك التي تقدم جنوباً.. يعترف المعتمد بهذا التفاوت حين يقول إن الخدمات التي تقدمها الحكومة المصرية لن تستطيع من خلالها خلع مواطني المثلث من انتماءاتهم للسودان، وقال إن الإغراءات لن تغير في سودانية القبائل السودانية شيئاً و أنهم سيظلون على ولائهم للسودان.. يقول المعتمد إنهم قطعوا شوطاً كبيراً في مشاريع التنمية مقارنة بما كان يحدث في السابق، لكن تبدو المفارقة كبيرة فيما يحدث هنا وما يحدث في الجانب الآخر.. المعتمد يبدو ساعتها سعيداً بالإنجاز في مشروع المياه.. يقودنا ليرينا الطلمبات التي أنجزتها محليته في الأيام السابقات، ويقول إن سعر برميل المياه الذي يحصل عليه المواطن من الطلمبة انخفض من 35 جنيهاً إلى 7 جنيهات فقط، أما ما يحدث في المستشفى فتحكي عنه إحدى الموظفات وهي تضع كل النقائص أمام القادمين، ومعها ذلك المبنى الفخيم الخالي من المرضى. ما يمكن قوله إن ما تبقى من حلايب يحتاج للكثير حتى تتحول العلاقة بين الحكومة والشعب إلى علاقة محبة.
سوء الشبكة
يشكو موظفو الجمارك ومسؤولو السلطات في المنطقة من سوء شبكة سوداني التي تسقط من حين لآخر وتعطل خدمات التخليص الجمركي والتوقيعات المنتظرة و يعزون هذا الأمر لارتباط الشبكة بالكهرباء التي تنتهي عند السادسة مساءً حيث يصبح بعدها من المستحيل إنجاز خدمة، عليه فإن تراكم السيارات له ما يبرره رغم أن السلطات الأمنية في المنطقة تؤكد أنه لا يوجد شيء يمكنه أن يعكر صفو الحياة هناك وأن كل المشاكل تتم معالجتها في الإطار الودي والجودية. تجود علينا ساعتها العربات القادمة من مصر بعدد لا يستهان به من (قدر الفول) لدرجة أن أحدهم يعلق الآن يمكن القول بمعالجة أزمة غذاء الغلابة فيما تبقى من السودان، نترك أوسيف في طريقنا نحو السلك متشابك الأوجاع.
من أوسيف وحتى السلك
سأمشي رافعاً رأسي بأرض النبل والطهر ومن تقديس أوطاني ودم في عروقي يجري.. قريباً من ذلك الجندي وهو يحمل سلاحه على كتفه المستقيم وعيونه تقول بالقدرة على وضع حلول للأزمة وفقاً للغة انتمائه الخاصة لمؤسسته، لكن ثمة من يقف في طريقه من أجل تحقيق غايته.. يمضي بخطوات من يتشوق للمضي في الطريق حتى نهايته ونتبعه في رحلة الـ 38 كيلو مترا مربعا الفاصلة بين مدينة أوسيف وبين السلك الشائك في الطريق تقف قرية قبانيت وبعدها (ماروب).
في رمال ماروب ثمة ما يتوقف عنده ففي العام 1958 وحين بدأت قضية حلايب تصعد إلى السطح كان ساعتها رئيس الوزراء عبد الله خليل يقف وقفته الصلبة ويخرج صوت: "لن نترك شبرا في الأرض السودانية". يهبط بطائرته في منطقة ماروب وتعود القوات المصرية من حيث أتت الجنود هناك يجعلون من نقطة توقف الطائرة مزاراً للانتماء ويسمونها في قواميسهم الخاصة بمطار عبد الله خليل.
جنوب السلك
فوهات المدافع المحمولة على أكتاف الجنود المصريين ورايتهم التي ترتفع هناك تقول للقادمين حسبكم فليس بالإمكان المرور أكثر حتى وإن كانت هناك حوالي سبعين كيلو مترا هي في الأصل من ضمن الخريطة السودانية قريباً من (السلك).. وفي الجانب الجنوبي ليس ثمة عسكر سودانيون. وجودهم هنا يعني اعترافهم بأن الأراضي مصرية. فقط العسكر الذين يرافقوننا أحدهم يخبرنا أن أمضوا إلى الإمام فأنتم لا تحملون أسلحة. عند الجانب الآخر يخرج إلينا عدد من الجنود تشابه لهجتهم لحد كبير لهجة أهل المنطقة.. يبادلوننا التحايا والسلام.. بل يلتقطون معنا الصور التذكارية وهم يرسمون الضحكة على وجوههم.. وحدها الدواخل تغلي حين تخبرك أرضك أن عد من حيث أتيت.. داخل السلك المكشوف يمكنك رؤية مبان للسكن بنيت من المواد الثابتة وحركة دوؤبة ربما زاد منها تواجدنا غير المرغوب فيه.. كانت نصف ساعة كافية لأن نعود أدراجنا ونحن يغتالنا السؤال ثم ماذا بعد؟ وما الذي يحدث في الجانب الآخر وكيف يعيش أولئك السودانيون تحت الاحتلال و إلى متى سنعود أدراجنا دون أن نعبر إلى نهاية حدود بلادنا؟
أقصى شمال الوطن
يقدر المعتمد المساحة التي تفرض عليها السلطات المصرية قبضتها بـ 70 كيلو مترا وهي منطقة لا يختلف اثنان على سودانيتها بحسب الخرط بل باعتراف الحكومة المصرية نفسها حين رسمت حدودها مع المملكة العربية السعودية في جزيرتي (تيران وصنافير) متخذة من خط 22 نقطة حدودية يكشف المعتمد عن القاطنين هناك من السودانيين حيث تتعدد انتماءاتهم الإثنية و إن كان يغلب عليهم عنصر قبيلة (البشاريين) وهي قبيلة لا علاقة لها بمصر مقارنة بمجموعات العبابدة التي تنقسم بين الدولتين بل إن عموديتهم في ولاية نهر النيل وقريباً من عطبرة كما أن العادات والتقاليد التي يتبعونها هي ذاتها العادات والتقاليد في شرق السودان. اختلاف بدا ماثلاً حتى في محاولة الإعلام المصري تزييف الحقائق ونقل الصورة من هناك وهو ما أكد على خطل الحديث عن مصرية المنطقة وأثبت سودانيتها رغماً عن ذلك فإن الجانب المصري يصر على فرض الأمر الواقع منذ العام 1994 والمضي قدماً في مشروع تجاوزاته. تبدو مفارقة أخرى تعلقت هذه المرة بفوز أحد مرشحي دائرة حلايب بانتخابات مجلس الشعب المصري وحين ذهب لإقامة احتفال فوزه لم يجد فنانا سوى الاتجاه نحو بورتسودان وجلب الفنان محمد البدري الذي ذهب إلى هناك عبر القاهرة..!
يكشف القائمون على الأمر هناك على أن ثمة حالة تسلل ذات أبعاد اجتماعية يقوم بها بعض المواطنين بين الجانبين فيما يكشف مصدر عسكري عن تواجد عساكر سودانيين داخل الجزء المحتل من قبل القوات المصرية.
نعود من السلك الشائك مثلما حدث لوالي ولاية البحر الأحمر ننحني لعاصفة الأمر الواقع ترهقنا فكرة الإيمان بسودانية حلايب وبضرورة استعادتها تتداخل التفاصيل والحكايات يقف الجندي المصري شاهراً سيفه ونحور النص (إن مددت إلي يدك لتقتلني فإني أمد إليك يدي لأقرئك السلام).. السلامة بشكلها الراهن ترفضها عيون الجندي المتوثب.. يختفي خلفها والي البحر الأحمر حين يضع المسؤولية على وزارة الخارجية التي تؤمن بنظرية أن السلام ضرورة وحين تسأل عن (السيادة) يجيبك ذلك المواطن السوداني الممنوع من دخول بورتسودان، لأن الخط يفصله عنها.. يخبرك عنه ذلك الآخر المقيم جنوب السلك... يصارع فقط لأن يعيش حياة مثل الحياة.. ويخبرك عنها تناقض ذلك الشاب من أبناء حلايب شمال السلك وهو يقول: ما ترانا فاعلين؟ الانتماء سوداني والخدمات مصرية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق