الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

مسار التعاون المحتوم في النهر العظيم

ظل نهر النيل يجري من منابعه، في الهضبة الإثيوبية والبحيرات الاستوائية، لحقب سحيقة في التاريخ وهو يشقّ صحراء ممتدّة كأطول نهر في العالم يتعدّى طوله أكثر من ستة آلاف كيلو متر ليهب الحياة لكل قاطني حوض النيل، إلا أن الحقيقة أنه ظلّ يشكّل لمصر أكثر من مجرد مورد ماء تجعل كل شيء حياً، فقد تحوّل إلى أيقونة وجدانية ورمزية استقرّت تكاد تجعل وجود مصر من دونه ليس بلا معنى فحسب، بل غير ممكن أصلاً، ولعلّ ذلك ما جعل هيروديت يطلق مقولته الشهيرة "مصر هبة النيل" أي أنها ما كانت ستكون لولاه، بيد أن هذا الارتباط الوجداني وتجذّره في الوعي الجمعي المصري إلى درجة تجعله "ملكاً خاصاً" بها دون غيرها، أحال المقولة في السياسات الإستراتيجية المصرية إلى واقع يكاد يعني حرفياً "أن النيل هبة مصر"، وليس العكس، ولعلّ هذا الإحساس الذي أصبح حاكماً للقرار الرسمي هو الذي قاد للتململ عند شركاء الحوض من أهل المنابع الذي رأوا فيها "احتكاراً" غير مبرّر.
من غير المنصف بالطبع اعتبار "الارتباط الوجداني والمصلحي" المصري بالنيل مجرد أمر دافعه غريزة حب التملك، بل هو نتاج خبرة وتجربة حياة طويلة، تعزّزها حقائق طبيعية، فمصر من دون شركائها في حوض النيل لا تملك بديلاً لمصادر المياه غير ما يرفدها بها نهر النيل، في حين يتوفر للدول الأخرى مصادر بديلة متعدّدة للمياه، دون أن يعني ذلك بالطبع أنها لا تحتاج إليه في أية عملية توسّع تنموي. لم يكن هناك حتى قبل أقل من مائة عام تزيد قليلاً، من حاجة للانتباه إلى ضرورة تقنين موارد مياه النيل إلى مصر، فالحداثة بكل تبعاتها لم تكن قد تمكّنت بعد من بسط أذرعها تعقيداً لمتطلبات الدولة الحديثة التي كان محمد علي باشا قد أرسى قواعدها قبل ذلك ببضعة عقود. وحتى الحاجة للتقنين لم تكن محل جدل فقد كانت الإمبراطورية البريطانية سيّدة حوض النيل بلا منازع وتسيطر استعماراً على أغلب دوله، وهو ما جعلها تبدأ مشوار التقنين لضمان مصالحها في مستعمراتها، فكان أن أبرمت أول اتفاقية في العام 1891 مع إيطاليا لضمان عدم قيام الأخيرة بأية إنشاءات تؤثر على تدفق المياه في نهر عطبرة، ثم أبرمت اتفاقية 1902 بين بريطانيا والإمبراطور منليك الثاني تعهد فيها بعدم القيام بأي منشآت على بحيرة تانا أو النيل الأزرق أو السوباط تعرقل وصول المياه إلى النيل إلا باتفاق مسبق مع حكومة صاحبة الجلالة والحكومة السودانية التي كانت تديرها بريطانيا، ثم أبرمت اتفاقية 1929 بين بريطانيا ومصر التي شرعت الحقوق المصرية، وأخيراً اتفاقية مياه النيل بين مصر والسودان في العام 1959 بعد ثلاث سنوات من استقلال السنوات التي اقتسمت مجمل وارد مياه النيل بين البلدين، والتي لا تزال تشكل مادة جدل واسع في العلاقات السودانية المصرية.
الرابط بين هذه الاتفاقيات، ودون الدخول في تفاصيل فنية أو قانونية أو المعطيات والملابسات السياسية حينها، أنها أسست حقوقاً مائية معلومة تضمن لمصر احتياجاتها الحاضرة والمستقبلية، ثم جاء إنشاء خزان جبل أولياء، ثم السد العالي بكل تداعياته ليرسّخ واقعاً حصرياً لمفهوم "الحقوق التاريخية المكتسبة" لمصر، في معادلة ظلت مقتصرة على مصر والسودان في التعاطي مع مسألة مياه النيل في غياب شبه تام لبقية دول الحوض التي كان عدم انشغالها عملياً بأي مطالب في المياه سبباً في تكريس الملكية الثنائية لمياه النيل. هذه الخلفيات المختصرة على نحو أرجو ألا يكون مخلاً تشكّل أرضية لا مناص من الانتباه إليها عند تناول التطوّرات اللاحقة التي جرت في حوض النيل، والتي بلغت ذروتها عندما أعلنت إثيوبيا في العام 2010 عن اعتزامها إنشاء سد باسم مجهول أخذ اسم سد الألفية قبل أن يأخذ عنوان "سد النهضة الإثيوبي العظيم".
لعلّ التحوّل الأهم في معادلات حوض النيل، التي استقرت لقرون، قد بدأت إرهاصاتها في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، بعد سنوات قليلة من انتصار الجبهة الثورية للشعوب الإثيوبية بزعامة ملس زيناوي في صراعها مع حكم الدرق بزعامة منقستو هايلي مريام في العام 1991، لم يكن نظام الحكم الجديد في أديس أبابا مجرد سلطة ترث أخرى، بل جاء بحمولة أيدولوجية مثقلة بالأحلام الكبيرة لبلد ذي تراث تاريخي عريض، كانت المفارقة بين أحلام القادة وواقع الفقر المدقع والتخلف التنموي كبيرة بدرجة تستلزم ما هو أكثر من إدارة شؤون الحكم بالغرق في الهموم اليومية للنظر في الآفاق المستقبلية، شكّل الخروج من دائرة الفقر بمشروعات تنموية طموحة الفكرة المركزية التي سيطرت على تطلعات زيناوي الزعامية لقيادة الشعوب الإثيوبية إلهاماً بمهمة وتشويقاً لدور. ولذلك انصرف ذهنه منذ البداية إلى ضرورة توظيف الموارد المائية الضخمة النابعة في بلده في مشروعه التنموي، ولكن كيف السبيل إلى ذلك، وقد استقرت معطيات وحسابات في أرض الواقع تقرب إلى درجة الثوابت غير الخاضعة للمساس فيما يتعلق بمياه النيل.
في خضم أيام الرفض المصري القاطع لقيام سد النهضة لأول أمره، سألت شخصية قيادية رفيعة جداً في الإقليم، كانت على صلة وثيقة بزيناوي في مطلع التسعينيات، عن خلفيات هذا النزاع وحقيقة مواقف الأطراف فيه، ومما قاله رداً على سؤالي إن ملس قبيل توجهه للقاهرة في العام 1993 في أول زيارة له لمصر كزعيم لبلاده تحدث معه حول أجندة زيارته ومن بينها قوله إنه سيفاتح نظيره المصري حسني مبارك بضرورة إعادة فتح ملف مياه النيل والاتفاقيات التي تحكمها لأن إثيوبيا لم تكن طرفاً فيها، كما أنها تريد أن تستغلّ مواردها المائية في مشروعه التنموي الطموح، وقالت الشخصية القيادية إنه نصح زيناوي بالتأني في فتح الموضوع خاصة أن السلطة الجديدة في أديس أبابا لم تزل طريّة العود. الشاهد في هذا الخصوص أن التوجّه الإثيوبي للتفكير باتجاه استخدام مياه النيل التي تنبع من أرضها، لا سيما أنها تمثل خمسة وثمانين بالمائة من مجمل موارد نهر النيل، لم يكن جديداً بل ظلّ حاضراً في أجندة القيادة الإثيوبية منذ بواكير التسعينيات.
على الرغم من الطبيعة الحيوية المفترضة لقيام علاقات وثيقة تجمع بين دول حوض النيل، السودان، مصر، إثيوبيا، إرتريا، يوغندا، كينيا، تنزانيا، رواندا، بروندي، والكنغو الديمقراطية، فإنه باستثناء هيئة مياه النيل المشتركة بين مصر والسودان، لم تكن هناك أطر محددة لهذه العلاقات، فقد بدأت أول محاولة للتعاون بين دول الحوض في العام 1967 فيما يعرف بمشروع "هايدرومت المسحي"، وكان يركز على حوض البحيرات الاستوائية بغرض جمع المعلومات وتحليلها، وضم مصر والسودان، وكينيا ويوغندا وزائير بروندي والكنغو الديمقراطية، وانضمّت إليه إثيوبيا بصفة مراقب في العام 1971، ولم يحقق المشروعات إنجازات كبيرة.
في العام 1983 نشأت مجموعة أوندوقو، وضمّت السودان، ومصر، يوغندا، إفريقيا الوسطى، ثم انضمّت لها لاحقاً رواندا وبروندي، بينما بقي تمثيل إثيوبيا وتنزانيا وكينيا كمراقبين، وهدفت المجموعة إلى تعزيز التعاون يينها في مسائل ليست على علاقة مباشرة بمياه النيل، مثل النقل والاتصالات.
وفي العام 1993، تأسست مجموعة التعاون الفني لتعزيز الحماية البيئية لحوض النيل، وضمّت السودان، مصر، رواندا، تنزانيا، يوغندا والكنغو الديمقراطية، بينما احتفظت إثيوبيا وإرتريا وكينيا وبروندي بدور المراقبين. وساعدت هذه المجموعة في التجهيز للخطط الوطنية، والقواعد الفنية، وتعزيز التعاون بين دول الحوض، وتطوير أطلس للحوض، والتدريب.
وكما هو ملاحظ في هذه المحاولات المحدودة للتعاون بين دول الحوض، فإن الغالب عليها أن دول المنابع سواء في الهضبة الإثيوبية أو البحيرات الاستوائية كانت شبة غائبة أو حاضرة بصفة مراقب، كما أن مضمون أجندتها لم تتعدَ جمع المعلومات، وتحليلها، وضمان زيادة تدفق المياه، ومن الواضح أن القضايا المتعلقة بالمياه نفسها لم تكن في قلب انشغالاتها، وكما يقول فيكأحمد نيقاش المدير التنفيذي لـ"المكتب الفني لحوض النيل الشرقي - إنترو"، فإن هذه المحاولات التنظيمية للتعاون بين دول الحوض لم تكن شاملة، والطريق لتعاون أوسع بين دول الحوض لم تكن واضحة، مثل مسائل تخصيص المياه، الحاجة لأطر قانونية جديدة، وبناء مؤسسات للتعاون.
ومن هذه الملاحظات حول قصور صيغ التعاون، مع تطور الرؤية الإثيوبية لمشرع تنموي ونهضوي تشكّل مياه النيل رافعة أساسية فيه، بدأت تلوح في الأفق معطيات جديدة في التعامل مع ما كان البعض يعتبره ثوابت في شأن مياه النيل، هذا الحراك الإثيوبي منذ منتصف التسعينيات هو ما بدأ في صناعة أجندة جديدة في حوض النهر النيل قادت لتحوّلات كبرى قلبت كل موازين المعاجلات التي استقرّت لدهور. كيف حدث ذلك، هذا ما نواصل فيه في مقالات قادمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق