الأربعاء، 18 يوليو 2018

عن سلامٍ في القرن الأفريقي

تسارعت أخيراً تطورات إيجابية متسارعة في القرن الأفريقي، تمثلت في التطبيع السريع بين دولتين مهمتين من دوله، إثيوبيا وإريتريا، تلاه تبادل زيارتين لأرفع مسؤولين فيهما، وإعادة فتح الزيارات بين شعبي البلدين بعد حالة اللاسلم واللاحرب دامت نحو 16 عاما.
وتتطلب هذه التطورات من الباحثين النظر إليها بعمق، بشأن أسبابها، وإمكانية تعميمها في القارة السمراء التي تموج بحالات عديدة مماثلة.
يتعلق أول ما يتبادر إلى الذهن بخصوص السياقات التي دفعت إلى هذه التسوية "السياسية الفعلية" لأزمة قانونية، حسمت عام 2002 بقرار ملزم من محكمة تحكيم خاصة، أنه على الرغم من ذلك لم يلتزم بها الطرف الذي بادر بالتسوية الآن (إثيوبيا). والاتفاق الجديد، بالنسبة لنظام الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، كله مكاسب، سيما أنه حقق له شروطه السابقة التي وضعها إبّان حكم التيغراي، وأهمها التنفيذ الكامل لكل مقررات اتفاقية سلام الجزائر عام 2000، وعدم الاكتفاء بإعلان رئيس وزراء إثيوبيا الأسبق، الراحل ميلس زيناوي، الاعتراف من حيث المبدأ بالاتفاق من دون تفاصيله. ويبدو أن تغير نمط الحكم في إثيوبيا من إثنية "الاتفاق الجديد، بالنسبة لنظام الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، كله مكاسب" التيغراي (أصحاب المشكلة) إلى إثنية الأورومو، وكذلك نمط القيادة من رئيس الوزراء السابق، هايلي ماريام ديسالين، الضعيف إلى أبي أحمد القوي، دفع أفورقي إلى القبول بهذا الأمر بهذه السرعة، ويبدو أيضا أنه يرغب في تحقيق إنجاز تاريخي داخلي، بعدما ضاق الشعب به في ظل تعطيله الدستور وتضييق الحريات، وعزلة دولية تركت آثارا سلبية على الأوضاع الاقتصادية، ناهيك عن أن ثلثي التجارة الخارجية لبلاده كانت تأتي من إثيوبيا قبل غلق الحدود.
هل تمت هذه التسوية بهذه الطريقة من دون وساطة خارجية؟ هناك تحليلات تتحدث عن دور إماراتي دفع في هذا الاتجاه، وعمل على الضغط على أديس أبابا للقبول باتفاق التحكيم وعلى أسمرة لقبول التطبيع، لاسيما في ظل الأهمية الاستراتيجية لموانئ أسمرة بالنسبة لأبو ظبي في مواجهة الحوثيين في حرب اليمن، وفي سياق الهيمنة الإقليمية في هذه المنطقة الجيو استراتيجية، خصوصا بعد تأزم العلاقة بين أبو ظبي وكل من جيبوتي والصومال أخيرا. ومن هنا، فسرت زيارة ولي عهد أبو ظبي أديس أبابا، وتقديم ثلاثة مليارات دولار للاستثمارات، منها مليار وديعة في هذا الشأن، وكذلك فسرت أيضا زيارتي آبي أحمد الرياض وأبو ظبي.
ستكون للاتفاق، حال تنفيذ بنوده بشكل كامل، تداعيات إيجابية على البلدين، فضلا عن إقليم القرن الأفريقي بشكل عام. فمن ناحيةٍ، سيمنح آبي أحمد مزيدا من الشرعية الشعبية، لاسيما في ظل فتح الموانئ الإريترية أمام التجارة الخارجية لبلاده، وسيعطيه دفعة قوية في مواجهة التيغراي الرافضين انتقال منطقة بادمي التي يقطنونها لسيادة الجانب الآخر، كما أنه سيوقف الدعم الإريتري للمعارضة، خصوصا جبهة تحريرالأورومو، ما يعني تهدئة داخلية إلى حد كبير قد تدفع أبي أحمد إلى تنفيذ أجندته الإصلاحية. وفي المقابل، فإنه ستكون بمثابة قبلة الحياة لنظام أفورقي الذي تآكلت شرعيته بصورة كبيرة. وبالتالي يفترض أن يتراجع إنفاقه العسكري، والتجنيد الإجباري، وتقييد الحريات العامة التي لطالما برّر قمعها بظروف الحرب، وتصريف هذه الجهود صوب التنمية وعودة الحريات العامة والدستور. ولكن يبدو أن هناك مخاوف من أن يزيده الاتفاق تعنتا وتوحّشا في مواجهة الخصوم.
ولكن يبدو أن الاتفاق ستكون له أيضا تداعيات إيجابية على الاستقرار في القرن الأفريقي بشكل عام، فمن ناحية قد يؤدي إلى إمكانية تحقيق استقرار في الصومال الذي لطالما شهد مواجهة بين إثيوبيا وإريتريا على أراضيه، عبر دعم أسمرة حركة الشباب في مواجهة القوات الأفريقية، وفي طليعتها القوات الإثيوبية. كما قد يؤدي إلى تطبيعٍ مماثل بين الصومال وإريتريا حال تراجع الأخيرة فعليا عن دعم حركة الشباب. وثالثا قد يؤدي إلى تحسين العلاقات بين السودان وإريتريا، عبر وساطة إثيوبية بعد تدهورها منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، وإغلاق السودان حدوده الشرقية مع إريتريا، بعد اتهام الرئيس السوداني عمر البشير مصر بحشد قوات لها في قاعدة ساوا الإريترية. ورابعا قد يؤدي الاتفاق بين أسمرة وأديس أبابا إلى اتفاق مماثل بين إريتريا وجيبوتي، خصوصا في ظل الخلاف الحدودي المماثل للحالة الإثيوبية الإريترية، وإنْ ترى تحليلات أن العلاقة ربما تتجه إلى مزيد من التصعيد، بسبب إصرار جيبوتي على موقفها الرافض عودة موانئ دبي للعمل في ميناء دوراليه.
وعلى الرغم من الآثار الإيجابية السابق الإشارة إليها، هناك تحديات على الطرفين، خصوصاً الإثيوبي، مواجهتها، وأبرزها يتعلق بالتفاصيل وعملية ترسيم الحدود وتعيينها على الأرض، "قد يؤدي الاتفاق بين أسمرة وأديس أبابا إلى اتفاق مماثل بين إريتريا وجيبوتي" ناهيك عن معرفة مصير سكان قرى إريترية ضمتها إثيوبيا والعكس صحيح. وثانيها يتعلق بالتيغراي، وكيفية تعامل أبي أحمد معهم، وهل سيقبلون الاتفاق أم لا، وهل سيكتفون بالرفض اللفظي فقط، أم قد يدفعون في اتجاه التوتير مرة أخرى، وهل سيبحثون عن دولةٍ ثالثةٍ تدعمهم في هذا الشأن. ويتعلق ثالث هذه التحدّيات بالمعارضة المدعومة من كليهما، وهل سيتخلي كل منهما فعليا عن دعمها، ويسلمه إلى طرف آخر، أم سيطالبها بالخروج إلى دولة ثالثة. وطبعا ربما يكون الحديث الأبرز في هذا الشأن عن جبهة تحرير الأورومو الموجودة في أسمرة، والتي لم يشملها قرار العفو الذي أصدره البرلمان الإثيوبي أخيرا لصالح قوى وضعت سابقا على قوائم الإرهاب، ومنها ائتلاف المعارضة الإثيوبية المسلحة.
على أية حال. يشير هذا الاتفاق إلى عدة أمور، تحتاج مزيداً من البحث، منها أهمية الاعتبارات السياسية في حسم القضايا القانونية، ودور القيادة السياسية في عملية تعقيد الصراعات الخارجية أو تسويتها، ودور الأطراف الخارجية (الوساطة) في عملية التأزيم أو الحل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق