الاثنين، 29 يونيو 2015

الحاضر الغائب في أزمة جنوب السودان

بعد عام ونصف العام من الصراع الدموي لا يزال جنوب السودان، الدولة الوليدة، يتلمس طريقه لسلام لا يزال يبدو بعيد المنال وسط صراع محموم تجاوز التنازع النخبوي على السلطة إلى نزاع مجتمعي عميق، لا سيما بين القبيلتين الأكثر وزناً ونفوذا الدينكا بزعامة الرئيس سلفا كير والنوير بزعامة رياك مشار. وفي ظل تباعد المواقف بين الطرفين تتواصل جهود تسوية تقودها بعض دول شرق أفريقيا في ظل تراجع كبير لدور المجتمع الدولي المكتفي بدعم الجهود الإقليمية، وفي غياب شبه تام لدور سوداني.
والسودان ليس مثله كأية دولة من دول منطقة شرق ووسط أفريقيا، ولا حتى الدول الكبرى، بشأن التطورات المؤسفة التي تجري جنوب السودان التي فجرها الصراع على السلطة بين رفاق الأمس وزملاء الكفاح في الحركة الشعبية لتحرير ويكاد يحيل أحلام مواطنيه في غد أفضل إلى سراب بقيعة. ولا ينبغي للسودان أن يكون بلا استراتيجية ظلاً باهتاً في مؤخرة الجهود المبذولة لتدارك الأوضاع في شطره الجنوبي.
صحيح أن جنوب السودان بات دولة مستقلة، وأن السودان لم يعد صاحب وصاية عليه بأي صورة من الصور، ولكن الصحيح كذلك أن تقسيم الدولة الأم لا يلغي حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة المتشابكة التي لا فكاك منها، كما أن المنافع أو المضار المتبادلة بين شطري السودان المنقسم لا يمكن القفز عليها.
فقد أسقطت تجربة عامين ونصف العام على التقسيم كل دعاوى الانفصاليين من الجانبين في الشمال والجنوب الذين سارعوا إليه خفة وجهلاً أنه سيكون العلاج لتراكمات عجز وفشل الدولة الوطنية والنخب التي تعاقبت على الحكم في تأسيس نظام ينهض ببلد توفرت لها كل أسباب ومقومات الدولة الناجحة، فقد ثبت أن التقسيم لم يفلح في أكثر من إنتاج دولتين فاشلتين بامتياز، فالشمال الذي ظن أنه تخلص من عبء الجنوب فإذا به يتعثر عند أول امتحان بعد الانفصال فقد ذاق الأمرين على الأقل في الجانب الاقتصادي ولم تمض أشهر معدودة حتى اعترف الحكم بأن الدولة على وشك الانهيار اقتصادياً، لقد انفضح جهل الانفصاليين الشماليين حين انكشف أن الشمال هو من كان يعيش عالة على الجنوب الغني بالنفط.
وأما الانفصاليون الجنوبيون الذين تراجعوا منكفئين من دعاوى الحركة الشعبية العريضة لتأسيس "سودان جديد" يحافظ على وحدة السودان على أسس جديدة فقد انكشفت عورتهم عند أول اختبار عندما تبين أنهم ليسوا سوى الوجه الآخر لعملة نخبة الشمال الفاقدة للوعي الاستراتيجي بتبعات وتداعيات التقسيم المفروض فرضاً. فالصراع المسلح على السلطة الذي انخرطوا فيه يسقط كل الادعاءات التي كانت تزعم أن الشمال يتحمل المسؤولية الكاملة وحده في منع الجنوبيين من تأسيس حكم يحقق تطلعاتهم في الحرية والمساواة والعدالة والسلام فها هي النخبة الجنوبية تثبت أن الجرثومة المسببة للفشل ليست محتكرة للنخبة الشمالية. لقد فشلوا حتى في وضع أسس لـ"سودان جنوبي جديد".
على أي حال ومع الوضع في الاعتبار كل هذه المعطيات والملابسات فإن المطلوب من السودان وهو الدولة الأم الأقدم تأسيساً أن يكون قد تعلم من عبرة الدرس القاسي وأن يسارع إلى المبادرة للتعاطي مع الأزمة الناشبة في الجنوب برؤية استراتيجية منفتحة متعظة بتبعة قصر النظر الذي أورد البلدين موارد الهلاك، بما يتجاوز دوره الباهت الراهن مجرد طرف ملحق بجهود دولية وإقليمية لوقف تدهور الأوضاع هناك، ولكنها لا تضع اعتباراً لدوره التفضيلي الذي يمكن أن يقوم به ليس فقط بحكم أنه الأكثر تضرراً من عدم الاستقرار وانفلات عقال النزاع إلى نقطة اللاعودة. وهي أضرار بالغة السوء اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً، بل لأن السودان يملك القدرة على لعب دور إيجابي أكثر فاعلية تؤهله لذلك معطيات العلاقة المتشابكة المصالح والتجربة ذات الخصوصية.
والاكتفاء بالتفرج أو بالانخراط الخجول ضمن مبادرة "إيقاد" لن ينجي السودان من العواقب الوخيمة التي تنتظره. فهذه قضية مصلحة وطنية إن لم تبادر الحكومة إلى قراءتها والتحرك بموجب ذلك وفق رؤية استراتيجية فلن يتبرع أحد للقيام بذلك الدور نيابة عنها.
والمطلوب طرح مبادرة سودانية إيجابية وفعالة الغرض منها مد يد العون لأشقائنا في جنوب السودان لمساعدتهم للخروج من أتون هذا الصراع بأقل الخسائر الممكنة، وهي مسؤولية تفرضها اعتبارات إنسانية أخلاقية كما تتطلبها اعتبارات سياسية واعية، وليس فقط خشية فقدان العائدات النفطية، ولكن لتحقيق المصالح المشروعة بمفهوم أوسع.
وينبغي للمبادرة المطلوبة ألا تكون شأناً حكومياً محضاً، بل يجب أن يكون الحراك المجتمعي فاعلاً أساسياً فيها عبر القوى السياسية والاجتماعية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، وهو فضاء أوسع للتحرك وأكثر حرية من قيود الحسابات السياسية التي تفرض مجالاً محدود السقف للمواقف الحكومية الرسمية.
ومن الواضح أن الموقف السوداني تجاه التطورات في الجنوب يتسم بقدر غير قليل من الارتباك والضبابية، على الرغم من أن بعض القوى الدولية تعوّل على دور أكثر إيجابية يمكن أن يلعبه السودان بحكم الصلات التاريخية وخبرته العميقة بالتيارات المتصارعة على السلطة في جوبا.
صحيح أن المبادرة التي تقودها كينيا وإثيوبيا وتنزانيا أفلحت في تحقيق تقدم محدود على مسار إعادة توحيد الحركة الشعبية باعتبار ذلك المدخل لتسوية الأزمة في جنوب السودان، خاصة وأن الصراع بدأ بتنازع داخل قيادتها، وهو التقدم الذي حدث بإعادة باقان أموم إلى منصبه السابق أميناً عاماً للحزب الحاكم ضمن التيار المعارض الذي اتخذ طريقاً ثالثا سلمياً في الصراع بين سلفا ومشار.
غير أن الطريق لا يزال طويلاً أمام التسوية الشاملة، وهو ما يعني أن السودان الغائب الحاضر في شأن أزمة جنوب السودان لا يزال مطالباً بأن يلعب دوراً إيجابيا ويقود حراكاً مؤثراً لتعزيز جهود السلام في جنوب السودان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق